الأحد، 10 يونيو 2012

وفي اثناء المسير ، يا رغداء

وفي أثناءِ المَسير ، يا رغداء




وكنت أتعمّدُ السير معها ، فلقد كان طلبُ والدها من أبي في أن أوصلها إلى بيتها في قريتهم المجاورة ،بعد المدرسة كل يوم امر لي واضح . ولقد كنا يافعين ننظر إلى كل شيء بلون وردي ، وكنت أزيد على ذلك ولو من باب مديح كاذب ، حكايات عن تصارع شخصي أصوِّره على أنه أمرٌ خطير ، مع أبناء القرى المجاورة ، ردا" على انتقاد ، أو تباهٍ أمام فتاة، بغية لفت نظرها والاستحواذ على اهتمامها .

كنت أتعمد أن أبطىء المَسِير ، كي أجعل بداية مشوارنا في الهزيع الأخير من عصر اليوم . حيث كنت أعلم بأن البنات يَخَفنَ أكثر من الفتيان عندما يسرنَ عبر البساتين والأودية خاصة حين يكُنَّ فرادى وخاصة إذا كان الجوُّ جوّا" خريفيا تكتنفه الكآبة ، وكنا نسير الهُوَينا ، أحمل لها ما أحضرته من الكتب والكراريس ، نضحك حينا ، نغني حينا" ، نحكي بعضا" من نكات تخرج عن المألوف أحيانا" كنا بعدها لا نتكلم لدقائق خجلاً .

كنت أترجّل القوة والسيطرة فأنا رجل ، وقيادة الركب عادةً ما تكون للرجال . وكنت أتعمَّد جذبها من ذراعها نحوي ، لأعيش شعور ملامسة ذراع رجل لبعض من ثدي امرأة ، يساعدني في ذلك استئذان الشمس للرحيل ، وإسدال الليل بعضا" من ستائر الظلام على المكان ليتيح لي ويساعدني على جعل حلمي َ ذاك ، أمرا" واقعا".

كانت تسير مسرعة أحيانا" ، تتعثّر بوعورة الطريق ، لتتكىء عليَّ حينا" وتنشب أصابعها في ساعدي ، في محاولة لاستعادة توازنها المهتزّ ، وكانت تتوجّسُ من أصوات ما يخرج من حيوانات في الليل . وبينما كان الوضع كذلك سحبت يدها من على ساعدي وجذبتها إلى أمامي لنصبح متقابلين ، ووقفنا حائرين ، كل منا مشدوهٌ بالآخر ، وكان هنالك حديث من نوع جديد ، شوق وجوع تعبر عنه عينان والهتان ، ورغبة جارفة أذنت للشفاه أن تغفو على الشفاه في استراحة مُحارِبٍ متعب . ومسكت يدها ، فأدركت أني أريد من ساعداها أن يلفّا جسدي ،لأُجذَب بما بقي من قوة فيها إلى صدرها ، لنغفو كلانا في صدر كلينا .

عند ذاك ، تذكرت بأن هزيع الليل الأول بنجومه وأفلاكه ، وطيوره وكل حياة فيه يشاهدوننا . وتذكرت حكايات جدتي عن أن بنات الجنّ يؤذين كل من يسير وحيدا في الليل عبر البساتين والحقول ، أو يفعل شيئا" غير مألوف ، وابتعدت عنها .

قلت لها : هل أنت خائفة يا رغداء . لم تجب وهزت كتفيها علامة النفي ، ثم قالت : سحرتني اليوم كما لم يسحر رجل امراة قبل ذلك ثم أردفت قائلة بصوت خفيض ، لقد أذقتني عالما" من السحر لم أتذوقه من قبل , لقد تعمَّدتَ لأن تسكن الفؤاد ، ولقد تعمَدتُ أنا أن أساعد على ذلك .

صوتٌ عالٍ خشنٍ بلهجة قروية قاسية ، يصيح من قريب غير بعيد : من هناك؟ . وعرفت أننا وصلنا . وأخذت بيدها ، وقرّبتها من شفتايَ لألثمها بنعومة حرير ، ثم قلت لها : ما دمت أني وصلت إلى قلبك ، أحب أن تستَمعي إلى ما يسكن في جوارحي من كلام

قالت ، وما هو :

قلت : أحبك يا رغداء .

وقفلت عائدا" ونسيت عشقي لأن غناء" من نوع آخر بدأ يظهر .وكنت خائفا" من عتمة المسير ، أشُدُّ على عصاي الكبيرة . وأتعمد أن أطرقها على الأرض ، لأفهم المجهول ، أني هنا .

وكنت أتعمد تقليد حارس القرية حين يقول بصوته القوي المرعب : ها . من هناك .

ووصلت رغداء لبيتها . ولا زلت أنا في مَسير . …





أحمد عاصم آقبيق

جدة في 10/06/2012م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق